الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ- بِصَرْفِ النَّظَرِ عَنِ الرِّوَايَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ- أَنَّهَا عَامَّةٌ لِكُلِّ مَنْ يَفْعَلُ هَذِهِ الْأَفْعَالَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إِذَا قَدَرْنَا عَلَيْهِمْ وَهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهَا بِالْفِعْلِ أَوْ الِاسْتِعْدَادِ. وَقَدْ قَالَ الَّذِينَ جَعَلُوهَا خَاصَّةً بِالْمُسْلِمِينَ: إِنَّ أَحْكَامَ الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ مَعْرُوفَةٌ بِالنُّصُوصِ وَالْعَمَلِ، وَلَيْسَ فِيهَا هَذِهِ الدَّرَجَاتُ فِي الْعِقَابِ، وَجَوَابُهُ أَنَّ هَذَا الْعِقَابَ خَاصٌّ بِمَنْ فَعَلَ مِثْلَ أَفْعَالِ الْعُرَنِيِّينَ، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ يُتَّبَعَ فِي حَرْبِ كُلِّ مَنْ حَارَبَنَا مِنَ الْكُفَّارِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اسْتِثْنَاءَ مَنْ تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ دَلِيلٌ عَلَى إِرَادَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُشْتَرَطُ فِي تَوْبَتِهِمْ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ هَذَا الْإِفْسَادِ هِيَ الَّتِي يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، لَا التَّوْبَةُ مِنَ الْكُفْرِ.وَمَجْمُوعُ الرِّوَايَاتِ فِي قِصَّةِ الْعُرَنِيِّينَ تُفِيدُ أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْإِسْلَامَ خَدِيعَةً لِلسَّلْبِ وَالنَّهْبِ، وَأَنَّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرُّعَاةِ، ثُمَّ قَتَلُوهُمْ وَمَثَّلُوا بِهِمْ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُمُ اعْتَدَوْا عَلَى الْأَعْرَاضِ أَيْضًا، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاقَبَهُمْ بِمِثْلِ عُقُوبَتِهِمْ؛ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (42: 40) وَقَوْلِهِ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ} (2: 194) إِنْ صَحَّ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ عِقَابِهِمْ، وَلَمْ يَعْفُ عَنْهُمْ كَعَادَتِهِ؛ لِئَلَّا يَتَجَرَّأَ عَلَى مِثْلِ فَعْلَتِهِمْ أَمْثَالُهُمْ مِنْ أَعْرَابِ الْمُشْرِكِينَ وَغَيْرِهِمْ، فَأَرَادَ بِذَلِكَ الْقِصَاصَ وَسَدَّ الذَّرِيعَةِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْآيَةَ بِهَذَا التَّشْدِيدِ فِي الْعِقَابِ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْإِفْسَادِ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ؛ وَهِيَ سَدُّ ذَرِيعَةِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ، وَلَكِنَّهُ حَرَّمَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ الْمُثْلَةَ؛ وَهِيَ تَشْوِيهُ الْأَعْضَاءِ، وَلَا مَفْسَدَةَ أَشَدُّ وَأَقْبَحُ مِنْ سَلْبِ الْأَمْنِ عَلَى الْأَنْفُسِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ النَّاطِقَةِ وَالصَّامِتَةِ. فَرُبَّ عُصْبَةٍ مِنَ الْمُفْسِدِينَ تَسْلُبُ الْأَمَانَ وَالِاطْمِئْنَانَ مِنْ أَهْلِ وِلَايَةٍ كَبِيرَةٍ، وَرُبَّ عُصْبَةٍ مُفْسِدَةٍ تُعَاقَبُ بِهَذِهِ الْعُقُوبَاتِ الْمَنْصُوصَةِ فِي الْآيَةِ فَتَطْهُرُ الْأَرْضُ مِنْ أَمْثَالِهَا زَمَنًا طَوِيلًا.وَالتَّشْدِيدُ فِي سَدِّ الذَّرَائِعِ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ السِّيَاسَةِ، لَا تَزَالُ جَمِيعُ الدُّوَلِ تُحَافِظُ عَلَيْهِ حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ يُحَكِّمُ الْوَهْمَ فِيهِ، وَمِنَ الْأَمْرِ الْإِدِّ مَا اجْتَرَحَتْهُ إِنْكِلْتِرَةُ فِي مِصْرَ بِهَذَا الْقَصْدِ؛ إِذْ مَرَّ بِقَرْيَةِ «دِنْشُوَايْ» مُنْذُ سِنِينَ قَلِيلَةٍ أَفْرَادٌ مِنْ جُنْدِ الْإِنْكِلِيزِ، كَانُوا يَصِيدُونَ الْحَمَامَ عِنْدَ بَيْدَرِهَا، فَتَخَاصَمُوا مَعَ أَصْحَابِ الْحَمَامِ وَتَضَارَبُوا، فَعَظُمَ عَلَى الْإِنْكِلِيزِ تَجَرُّؤُ الْفَلَّاحِ الْمِصْرِيِّ عَلَى ضَرْبِ الْجُنْدِيِّ الْإِنْكِلِيزِيِّ، فَعَقَدُوا الْمَحْكَمَةَ الْعُرْفِيَّةَ لِمُحَاكَمَةِ أُولَئِكَ الْفَلَّاحِينَ بِرِيَاسَةِ بُطْرُسَ بَاشَا غَالِي، فَحَكَمَتْ عَلَى بَعْضِ أُولَئِكَ الْفَلَّاحِينَ بِأَنْ يُصْلَبُوا وَيُعَذَّبُوا بِالضَّرْبِ بِالسِّيَاطِ «الْكَرَابِيجِ» ذَاتِ الْعُقَدِ، حَتَّى تَتَنَاثَرَ لُحُومُهُمْ، وَأَنْ يَبْقَوْا مَصْلُوبِينَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ مُدَّةً طَوِيلَةً، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى أَعْيُنِ أَهْلِيهِمْ وَأَعْيُنِ النَّاسِ، وَنُفِّذَ الْحُكْمُ، وَقَدْ أَنْكَرَ هَذِهِ الْقَسْوَةَ وَاسْتَفْظَعَهَا النَّاسُ، حَتَّى بَعْضُ أَحْرَارِ الْإِنْكِلِيزِ فِي بِلَادِهِمْ، وَشَنَّعُوا عَلَيْهَا فِي الْجَرَائِدِ وَفِي مَجْلِسِ النُّوَّابِ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ لَا تُعَدُّ مِنَ الْخُرُوجِ عَلَى ذِي السُّلْطَانِ، وَلَا مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنْ قَصَدَ الْإِنْكِلِيزُ بِالْقَسْوَةِ فِيهَا أَلَّا يَتَجَرَّأَ أَحَدٌ عَلَى مُقَاوَمَةِ جُنْدِيٍّ إِنْكِلِيزِيٍّ، وَإِنِ اعْتَدَى، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ عَدْلِ الْإِسْلَامِ الَّذِي سَاوَى خَلِيفَتُهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بَيْنَ ابْنِ فَاتِحِ مِصْرَ وَقَائِدِ جَيْشِهَا وَحَاكِمِهَا الْعَامِّ «عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ» وَبَيْنَ غُلَامٍ قِبْطِيٍّ؛ إِذْ تَسَابَقَا، فَسَبَقَ الْقِبْطِيُّ ابْنَ الْحَاكِمِ، فَصَفَعَهُ هَذَا وَقَالَ: أَتَسْبِقُنِي وَأَنَا ابْنُ الْأَكْرَمَيْنِ؟ فَلَمَّا رُفِعَ الْأَمْرُ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمْ يَرْضَ إِلَّا أَنْ يَصْفَعَ الْقِبْطِيُّ ابْنَ الْفَاتِحِ الْحَاكِمِ كَمَا صَفَعَهُ، وَقَالَ لِعَمْرٍو كَلِمَتَهُ الذَّهَبِيَّةَ الْمَشْهُورَةَ: يَا عَمْرُو مُنْذُ كَمْ تَعَبَّدْتُمُ النَّاسَ وَقَدْ وَلَدَتْهُمْ أُمَّهَاتُهُمْ أَحْرَارًا؟ وَلَكِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا تَرَكُوا حُكْمَ الْإِسْلَامِ صَارُوا يَطْلُبُونَ مِنَ الْإِنْكِلِيزِ وَمِمَّنْ دُونَ الْإِنْكِلِيزِ أَنْ يُعَلِّمُوهُمُ الْعَدْلَ وَقَوَانِينَهُ!!.أَمَّا تَفْسِيرُ الْآيَةِ فَهُوَ مَا تَرَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} أَيْ إِنَّ جَزَاءَ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مَا ذُكِرَ مَحْصُورٌ فِيمَا يُذْكَرُ بَعْدَهُ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى سَبِيلِ التَّرْتِيبِ وَالتَّوْزِيعِ عَلَى جِنَايَاتِهِمْ وَمَفَاسِدِهِمْ، لِكُلٍّ مِنْهَا مَا يَلِيقُ بِهَا مِنَ الْعُقُوبَةِ.وَالْمُحَارَبَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْحَرْبِ، وَهِيَ ضِدُّ السِّلْمِ، وَالسِّلْمُ السَّلَامُ؛ أَيِ السَّلَامَةُ مِنَ الْأَذَى وَالضَّرَرِ وَالْآفَاتِ، وَالْأَمْنُ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَالْأَصْلُ فِي مَعْنَى كَلِمَةِ الْحَرْبِ التَّعَدِّي وَسَلْبُ الْمَالِ. لِسَانُ الْعَرَبِ: الْحَرَبُ بِالتَّحْرِيكِ، أَنْ يُسْلَبَ الرَّجُلُ مَالَهُ، حَرَبَهُ يَحْرُبُهُ «بِوَزْنِ طَلَبَ، وَكَذَا بِوَزْنِ تَعِبَ» إِذَا أَخَذَ مَالَهُ، فَهُوَ مَحْرُوبٌ وَحَرِيبٌ، مِنْ قَوْمٍ حَرْبَى وَحُرَبَاءَ، ثُمَّ قَالَ: حَرِيبَةُ الرَّجُلِ مَالُهُ الَّذِي يَعِيشُ بِهِ، وَالْحَرَبُ بِالتَّحْرِيكِ أَخْذُ الْحَرِيبَةِ؛ فَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ وَيَتْرُكَهُ بِلَا شَيْءٍ يَعِيشُ بِهِ، انْتَهَى. فَأَنْتَ تَرَى أَنَّ الْحَرْبَ وَالْمُحَارَبَةَ لَيْسَ مُرَادِفًا لِلْقَتْلِ وَالْمُقَاتَلَةِ، وَإِنَّمَا الْأَصْلُ فِيهَا الِاعْتِدَاءُ وَالسَّلْبُ وَإِزَالَةُ الْأَمْنِ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِقَتْلٍ وَقِتَالٍ، وَبِدُونِهِمَا. وَقَدْ ذُكِرَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ فِي الْقُرْآنِ فِي أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ آيَةٍ. وَأَمَّا الْمُحَارَبَةُ فَلَمْ تُذْكَرْ إِلَّا فِي هَذِهِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي بَيَانِ عِلَّةِ بِنَاءِ الْمُنَافِقِينَ لِمَسْجِدِ الضِّرَارِ: {وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} (9: 107). قَالَ رُوَاةُ التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ: أَيْ تَرَقُّبًا وَانْتِظَارًا لِلَّذِي حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ، مِنْ قَبْلِ بِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ، وَهُوَ أَبُو عَامِرٍ الرَّاهِبُ؛ فَإِنَّهُ كَانَ شَدِيدَ الْعَدَاوَةِ لِلْإِسْلَامِ، وَوَعَدَ الْمُنَافِقِينَ بِأَنْ يَذْهَبَ وَيَأْتِيَهُمْ بِجُنُودٍ مِنْ عِنْدِ قَيْصَرَ لِلْإِيقَاعِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَمُحَارَبَةُ هَذَا الرَّاهِبِ مِنْ قَبْلُ كَانَتْ بِإِثَارَةِ الْفِتَنِ، لَا بِالْقِتَالِ وَالنِّزَالِ، وَأَمَّا لَفْظُ «الْحَرْبِ» فَقَدْ ذُكِرَ فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ مِنْ أَرْبَعِ سُوَرٍ؛ مِنْهَا إِعْلَامُ الْمُصِرِّينَ عَلَى الرِّبَا بِأَنَّهُمْ فِي حَرْبٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَالْبَاقِي بِالْمَعْنَى الْمَشْهُورِ، وَهُوَ ضِدُّ السِّلْمِ. وَكَانَ أَهْلُ الْبَوَادِي- وَلَا يَزَالُونَ- يَغْزُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا لِأَجْلِ السَّلْبِ وَالنَّهْبِ، وَقَدْ جَعَلَ الْفُقَهَاءُ كِتَابَ الْمُحَارَبَةِ- وَيَقُولُونَ الْحَرَابَةُ أَيْضًا- غَيْرَ كِتَابِ الْجِهَادِ وَالْقِتَالِ. وَجَعَلُوا الْأَصْلَ فِيهَا هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَعَرَّفُوهَا بِأَنَّهَا إِشْهَارُ السِّلَاحِ وَقَطْعُ السَّبِيلِ، وَاشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ كَالشَّافِعِيِّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الشَّوْكَةِ.«كَالَّذِينِ يُؤَلِّفُونَ الْعِصَابَاتِ الْمُسَلَّحَةَ لِلسَّلْبِ وَالنَّهْبِ وَقَتْلِ مَنْ يُعَارِضُهُمْ، أَوْ لِمُقَاوَمَةِ السُّلْطَةِ؛ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ» وَاشْتَرَطُوا فِيهَا شُرُوطًا سَنُشِيرُ إِلَى الْمُهِمِّ مِنْهَا.أَمَّا كَوْنُ هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْعُدْوَانِ مُحَارَبَةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فَلِأَنَّهُ اعْتِدَاءٌ عَلَى شَرِيعَةِ السِّلْمِ وَالْأَمَانِ وَالْحَقِّ وَالْعَدْلِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ. فَمُحَارَبَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ هِيَ عَدَمُ الْإِذْعَانِ لِدِينِهِ وَشَرْعِهِ فِي حِفْظِ الْحُقُوقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْمُصِرِّينَ عَلَى أَكْلِ الرِّبَا: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} (2: 279) وَلَيْسَ مَعْنَاهُ مُحَارَبَةَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: فَمَنْ لَمْ يُذْعِنُوا لِلشَّرْعِ فِيمَا يُخَاطِبُهُمْ بِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يُعَدُّونَ مُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ الَّذِي يُقِيمُ الْعَدْلَ وَيَحْفَظُ النِّظَامَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِمَانِعِي الزَّكَاةِ، حَتَّى يَفِيئُوا وَيَرْجِعُوا إِلَى أَمْرِ اللهِ، وَمَنْ رَجَعَ مِنْهُمْ فِي أَيِّ وَقْتٍ يَقْبَلُ مِنْهُ وَيَكُفُّ عَنْهُ، وَلَكِنْ إِذَا امْتَنَعُوا عَلَى إِمَامِ الْعَدْلِ الْمُقِيمِ لِلشَّرْعِ، وَعَثَوْا إِفْسَادًا فِي الْأَرْضِ، كَانَ جَزَاؤُهُمْ مَا بَيَّنَهُ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} مُتَمِّمٌ لِمَا قَبْلَهُ؛ أَيْ يَسْعَوْنَ فِيهَا سَعْيَ فُسَّادٍ أَوْ مُفْسِدِينَ فِي سَعْيِهِمْ لِمَا صَلَحَ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ فِي نِظَامِ الِاجْتِمَاعِ وَأَسْبَابِ الْمَعَاشِ.وَالْفَسَادُ ضِدُّ الصَّلَاحِ، فَكُلُّ مَا يَخْرُجُ عَنْ وَضْعِهِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ صَالِحًا نَافِعًا، يُقَالُ إِنَّهُ قَدْ فَسَدَ، وَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا كَانَ سَبَبًا لِفَسَادِ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ يُقَالُ إِنَّهُ أَفْسَدَهُ، فَإِزَالَةُ الْأَمْنِ عَلَى الْأَنْفُسِ أَوِ الْأَمْوَالِ أَوِ الْأَعْرَاضِ، وَمُعَارَضَةُ تَنْفِيذِ الشَّرِيعَةِ الْعَادِلَةِ وَإِقَامَتِهَا، كُلُّ ذَلِكَ إِفْسَادٌ فِي الْأَرْضِ. رَوَى عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ الْفَسَادَ هُنَا الزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَإِهْلَاكُ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَعْمَالِ مِنَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ قَوْلَ مُجَاهِدٍ بِأَنَّ هَذِهِ الذُّنُوبَ وَالْمَفَاسِدَ لَهَا عُقُوبَاتٌ فِي الشَّرْعِ غَيْرُ مَا فِي الْآيَةِ، فَلِلزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ حُدُودٌ، وَإِهْلَاكُ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ يُقَدَّرُ بِقَدْرِهِ، وَيَضْمَنُهُ الْفَاعِلُ وَيُعَزِّرُهُ الْحَاكِمُ بِمَا يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَفَاتَ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَرِضِينَ أَنَّ الْعِقَابَ الْمَنْصُوصَ فِي الْآيَةِ خَاصٌّ بِالْمُحَارِبِينَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ الَّذِينَ يُكَاثِرُونَ أُولِي الْأَمْرِ، وَلَا يُذْعِنُونَ لِحُكْمِ الشَّرْعِ، وَتِلْكَ الْحُدُودُ إِنَّمَا هِيَ لِلسَّارِقِينَ وَالزُّنَاةِ أَفْرَادًا، الْخَاضِعِينَ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فِعْلًا، وَقَدْ ذُكِرَ حُكْمُهُمْ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ الْمُفْرَدِ كَقَوْلِهِ: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} (5: 38) و{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} (24: 2) وَهُمْ يَسْتَخْفُونَ بِأَفْعَالِهِمْ وَلَا يَجْهَرُونَ بِالْفَسَادِ حَتَّى يَنْتَشِرَ بِسُوءِ الْقُدْوَةِ بِهِمْ، وَلَا يُؤَلِّفُونَ لَهُ الْعَصَائِبَ لِيَمْنَعُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الشَّرْعِ بِالْقُوَّةِ، فَلِهَذَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَمُفْسِدُونَ، وَالْحُكْمُ هُنَا مَنُوطٌ بِالْوَصْفَيْنِ مَعًا، وَإِذَا أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ لَفْظَ الْمُحَارِبِينَ فَإِنَّمَا يَعْنُونَ بِهِ الْمَحَارِبِينَ الْمُفْسِدِينَ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَيْنِ مُتَلَازِمَانِ.وَلَا تَتَحَقَّقُ مُحَارَبَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ بِمُحَارَبَةِ الشَّرْعِ، وَمُقَاوَمَةِ تَنْفِيذِهِ وَإِفْسَادِ النِّظَامِ عَلَى أَهْلِهِ إِلَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِلْكُفَّارِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَحْكَامٌ أُخْرَى كَمَا قَالَ الْفُقَهَاءُ، وَأَحْكَامُهُمْ تُذْكَرُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ، لَا فِي كِتَابِ الْمُحَارَبَةِ أَوِ الْحَرَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ فَطِنَ لِهَذَا الْمَعْنَى بَعْضُهُمْ، وَلَمْ يَتَّضِحْ لَهُ تَمَامَ الِاتِّضَاحِ، فَاشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمُحَارِبُونَ الْمُفْسِدُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَكُونَ إِفْسَادُهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَلَا فَصْلَ حِينَئِذٍ فِيهِمْ بَيْنَ أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ أَوْ ذِمِّيِّينَ أَوْ مُعَاهِدِينَ أَوْ حَرْبِيِّينَ. كُلُّ مَنْ قَدَرْنَا عَلَيْهِ مِنْهُمْ نَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ.وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَعْرِيفِ الْمُحَارِبِينَ فَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْمُحَارِبُ عِنْدَنَا مَنْ حَمَلَ السِّلَاحَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مِصْرٍ أَوْ خَلَاءٍ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى غَيْرِ ثَائِرَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ، وَلَا دَخَلَ وَلَا عَدَاوَةَ، قَاطِعًا لِلسَّبِيلِ وَالطَّرِيقِ وَالدِّيَارِ، مُخْتَفِيًا لَهُمْ بِسِلَاحِهِ، وَذَكَرَ أَنَّ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ قَتَلَهُ الْإِمَامُ، لَيْسَ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ فِيهِ عَفْوٌ وَلَا قَوْدٌ.وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ فِي مَسْأَلَةِ إِثْبَاتِ الْمُحَارَبَةِ فِي الْمِصْرِ عَنْ مَالِكٍ فَأَثْبَتَهَا مَرَّةً وَنَفَاهَا أُخْرَى. نَقُولُ: وَالصَّوَابُ الْإِثْبَاتُ؛ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ فِي كُتُبِ مَذْهَبِهِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ انْتِفَاءَ الْعَدَاوَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَسْبَابِ؛ لِيَتَحَقَّقَ كَوْنُ ذَلِكَ مُحَارَبَةً لِلشَّرْعِ وَمُقَاوَمَةً لِلسُّلْطَةِ الَّتِي تُنَفِّذُهُ، وَفِي حَاشِيَةِ الْمُقْنِعِ مِنْ كُتُبِ الْحَنَابِلَةِ تَلْخِيصٌ لِمَذَاهِبِ الْفُقَهَاءِ فِي ذَلِكَ، هَذَا نَصُّهُ: «يُشْتَرَطُ فِي الْمُحَارِبِينَ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ:(1) أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ سِلَاحٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ سِلَاحٌ فَلَيْسُوا مُحَارِبِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ مَنْ يَقْصِدُهُمْ، وَلَا نَعْلَمُ فِي هَذَا خِلَافًا، فَإِنْ عَرَضُوا بِالْعِصِيِّ وَالْحِجَارَةِ فَهُمْ مُحَارِبُونَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَيْسُوا مُحَارِبِينَ.(2) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الصَّحْرَاءِ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي الْبُنْيَانِ لَمْ يَكُونُوا مُحَارِبِينَ فِي قَوْلِ الْخِرَقِيِّ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْوَجِيزِ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ يُسَمَّى حَدَّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَقَطْعُ الطَّرِيقِ إِنَّمَا هُوَ فِي الصَّحْرَاءِ، وَلِأَنَّ فِي الْمِصْرِ يَلْحَقُ الْغَوْثُ غَالِبًا، فَتَذْهَبُ شَوْكَةُ الْمُعْتَدِينَ، وَيَكُونُونَ مُخْتَلِسِينَ، وَالْمُخْتَلِسُ لَيْسَ بِقَاطِعٍ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: حُكْمُهُمْ فِي الْمِصْرِ وَالصَّحْرَاءِ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ لِتَنَاوُلِ الْآيَةِ بِعُمُومِهَا كُلَّ مُحَارِبٍ؛ وَلِأَنَّهُ فِي الْمِصْرِ أَعْظَمُ ضَرَرًا فَكَانَ أَوْلَى.(3) أَنْ يَأْتُوا مُجَاهَرَةً وَيَأْخُذُوا الْمَالَ قَهْرًا، فَأَمَّا إِنْ أَخَذُوهُ مُخْتَفِينَ فَهُمْ سُرَّاقٌ، وَإِنِ اخْتَطَفُوهُ وَهَرَبُوا فَهُمْ مُنْتَهِبُونَ لَا قَطْعَ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ إِنْ خَرَجَ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ عَلَى آخِرِ قَافِلَةٍ فَاسْتَلَبُوا مِنْهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى مَنَعَةٍ وَقُوَّةٍ، وَإِنْ خَرَجُوا عَلَى عَدَدٍ يَسِيرٍ فَقَهَرُوهُمْ، فَهُمْ قُطَّاعُ طَرِيقٍ». انْتَهَى.قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْمُسْتَقِلِّينَ بِالْفَهْمِ: إِنَّ أَكْثَرَ الشُّرُوطِ الَّتِي اشْتَرَطَهَا الْفُقَهَاءُ فِي هَذَا الْبَابِ، لَا يُوجَدُ لَهَا أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ دَلَالَةً صَرِيحَةً عَلَى أَنَّ هَذَا الْعِقَابَ خَاصٌّ بِمَنْ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بِالسَّلْبِ وَالنَّهْبِ، أَوِ الْقَتْلِ، أَوْ إِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ- أَوْ مِنْهُ- الِاعْتِدَاءُ عَلَى الْأَعْرَاضِ إِذَا كَانُوا مُحَارِبِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِقُوَّةٍ يَمْتَنِعُونَ بِهَا مِنَ الْإِذْعَانِ وَالْخُضُوعِ لِشَرْعِهِ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إِلَّا حَيْثُ يُقَامُ شَرْعُهُ الْعَادِلُ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ. فَمَنِ اشْتَرَطَ حَمْلَهُمُ السِّلَاحَ أَخَذَ شَرْطَهُ مِنْ كَوْنِ الْقُوَّةِ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا ذَانِكَ الْأَمْرَانِ إِنَّمَا هِيَ قُوَّةُ السِّلَاحِ، وَهُوَ لَوْ قِيلَ لَهُ إِنَّهُ يُوجَدُ أَوْ سَيُوجَدُ مَوَادُّ تَفْعَلُ فِي الْإِفْسَادِ وَالْإِعْدَامِ وَتَخْرِيبِ الدُّورِ، وَكَذَا فِي الْحِمَايَةِ وَالْمُقَاوَمَةِ أَشَدَّ مِمَّا يَفْعَلُ السِّلَاحُ- كَالدِّينَامِيتِ الْمَعْرُوفِ الْآنَ- أَلَا تَرَاهُ فِي حُكْمِ السِّلَاحِ؟ يَقُولُ: بَلَى، وَمَنِ اشْتَرَطَ خَارِجَ الْمِصْرِ رَاعَى الْأَغْلَبَ، أَوْ أَخَذَ مِنْ حَالِ زَمَنِهِ أَنَّ الْمِصْرَ لَا يَكُونُ فِيهِ ذَلِكَ. وَمَا اشْتَرَطَ أَحَدٌ شَرْطًا غَيْرَ صَحِيحٍ أَوْ غَيْرَ مُطَّرِدٍ إِلَّا وَلَهُ وَجْهٌ انْتَزَعَهُ مِنْهُ.أَمَّا ذَلِكَ الْجَزَاءُ الَّذِي يُعَاقَبُ بِهِ أَمْثَالُ هَؤُلَاءِ الْمُفْسِدِينَ بِالْقُوَّةِ فَهُوَ {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ}. التَّقْتِيلُ: هُوَ التَّكْثِيرُ، أَوِ التَّكْرَارُ، أَوِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْقَتْلِ، فَأَمَّا مَعْنَى التَّكْرَارِ أَوِ التَّكْثِيرِ فَلَا يَظْهَرُ إِلَّا بِاعْتِبَارِ الْأَفْرَادِ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: كُلَّمَا ظَفِرْتُمْ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ مِنْهُمْ فَاقْتُلُوهُ، وَأَمَّا الْمُبَالَغَةُ فَتَظْهَرُ بِكَوْنِ الْقَتْلِ حَتْمًا لَا هَوَادَةَ فِيهِ، وَلَا عَفْوَ مِنْ وَلِيِّ الدَّمِ، وَقَدْ صَرَّحَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّ الْمُحَارِبِينَ الْمُفْسِدِينَ إِذَا قَدَرْنَا عَلَى الْقَاتِلِ مِنْهُمْ نَقْتُلُهُ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ وَلِيُّ الدَّمِ أَوْ رَضِيَ بِالدِّيَةِ. وَالتَّصْلِيبُ: التَّكْرَارُ أَوِ الْمُبَالَغَةُ فِي الصَّلْبِ، فَيُقَالُ فِيهِ مَا قِيلَ فِي التَّقْتِيلِ، وَيُمْكِنُ تَكْرَارُ صَلْبِ الْوَاحِدِ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنِ الصَّلْبَ يَكُونُ بَعْدَ الْقَتْلِ لِأَجْلِ الْعِبْرَةِ، فَيُصْلَبُ الْمُجْرِمُ فِي النَّهَارِ، وَتُحْفَظُ جُثَّتُهُ لَيْلًا، ثُمَّ يُصْلَبُ فِي النَّهَارِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصْلَبُ بَعْدَ الْقَتْلِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُصْلَبُونَ أَحْيَاءَ لِيَمُوتُوا بِالصَّلْبِ كَمَا قَالَ الْجُمْهُورُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنِ الصَّلْبُ عُقُوبَةً ثَانِيَةً، وَأَصْلُ مَعْنَى الصَّلَبِ بِالتَّحْرِيكِ وَالصَّلِيبِ فِي اللُّغَةِ: الْوَدَكُ «الدُّهْنُ» أَوْ وَدَكُ الْعِظَامِ الَّتِي يُعَدُّ صُلْبُ الظَّهْرِ جِذْعَ شَجَرَتِهَا، وَالصَّدِيدُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ بَدَنِ الْمَيِّتِ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: وَالصَّلْبُ مَصْدَرُ صَلَبَهُ يَصْلِبُهُ- بِكَسْرِ اللَّامِ- صَلْبًا، وَأَصْلُهُ مِنَ الصَّلِيبِ، وَهُوَ الْوَدَكُ أَوِ الصَّدِيدُ، وَالصَّلْبُ هَذِهِ الْقِتْلَةُ الْمَعْرُوفَةُ مُشْتَقٌّ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ صَلَبَهُ يَصْلُبُهُ صَلْبًا، وَصَلَّبَهُ شُدِّدَ لِلتَّكْثِيرِ... وَالصَّلِيبُ: الْمَصْلُوبُ. انْتَهَى. وَيَعْنِي بِالْقِتْلَةِ الْمَعْرُوفَةِ أَنْ يُرْبَطَ الشَّخْصُ عَلَى خَشَبَةٍ أَوْ نَحْوِهَا، مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ مَمْدُودَ الْيَدَيْنِ حَتَّى يَمُوتَ، وَكَانُوا يَطْعَنُونَ الْمَصْلُوبَ لِيُعَجِّلُوا مَوْتَهُ، وَالشَّكْلُ الَّذِي يُشْبِهُ الْمَصْلُوبَ يُسَمَّى صَلِيبًا.
|